الزمان : العام 1963
المكان : سجن الكتراز الشهير بالصخره
المناسبه : وفاة روبرت فرانكلين سترود عن عمر يناهز 73 سنة و54 سنة من حياته خلف القضبان
فمن هو روبرت فرانكلين سترود وماهى قصته ؟ فلنبدأ من البداية .
*****
(الكتراز) اسم لإحدى جزر مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية والتي كانت في وقت من الأوقات مرتعاً لأقوى وأعنف المجرمين في العالم.
ففي عام 1934م قامت الحكومة الأمريكية بتحويل هذه الجزيرة إلى سجن حكومي يتصف بحراسة وقوة أمنية مشددة ليحتضن الوحوش البشرية من السفاحين والمغتصبين والقتلة وزعماء العصابات المنظمة.
وظل هذا السجن مفتوحاً لاستقبال السجناء حتى العام 1963م عندما قرر عمدة ولاية كاليفورنيا الأمريكية إغلاقه بسبب التكاليف العالية التي تصرف على أمنه وتغطية رواتب العاملين فيه.
وتحولت بعد ذلك إلى جزيرة سياحية يزورها السياح لمشاهدة السجون والزنزانات التي سكنها أشهر السفاحين العالميين.
ومن بين هذه الزنزانات هناك زنزانة فريدة من نوعها وتفردها لم يكن في تصميمها أو موقعها بل في الشخص الذي سكنها والذي يعد أكثر السجناء شهرة في العالم. والغريب في الأمر أن شهرته لم تقتصر على الجرائم التي ارتكبها بل في أسلوب عيشه الذي قضاه خلف القضبان لسنوات عديدة.
الطريق نحو الهاوية
هذا السجين لم يكن سوى روبرت سترود والملقب ب (رجل الطيور) وهو لقب أشتهر به في السجن لعشقه لعالم الطيور.
وتبدأ هذه القصة في شهر نوفمبر من العام 1908م عندما أراد روبرت سترود، وكان عمره آنذاك 18 عاماً فقط, أن ينتقل مع حبيبته كيتي اوبراين 36 عاماً من بلدتهما الصغيرة كوردوفا إلى عاصمة ولاية ألاسكا جونو لاعتقادهما بتوفر الفرص الذهبية لكسب المال هناك. فقاما برحلة على القارب إلى العاصمة وآمالهما كبيرة في كسب الثروات والانتقال إلى عالم الأغنياء المبهر.
ولكن كما هو المثل المشهور (تجري الرياح بما لا تشتهي السفن) فبمجرد أن وطأت قدماهما أرض العاصمة حتى جرتهما إلى عالم آخر يغلب عليه الفساد الاجتماعي والصراع على كسب المادة، عالم لا يعترف بالمبادئ، وأسس الحياة القوي فيه يأكل الضعيف والفقير مسكنه الأزقة وأرصفة الشوارع ويقتات على ما يخلفه الناس في الحاويات.
ومع الوقت تمكنت كيتي من الحصول على وظيفة كراقصة في نادٍ ليلي، أما روبرت فما زال يبحث عن عمل يقتات منه ولكن الأمور بدأت تتجه نحو الأسوأ مع مرور الوقت.
وبعد شهرين وبالتحديد في الثامن عشر من يناير سنة 1909م قابل روبرت وكيتي صديقاً قديماً من بلدتهما يدعى فون دامر والمعروف بتشارلي فمكث معهما في شقتهما المتواضعة التي كانا قد استأجراها بما تتقاضاه كيتي من عملها كراقصة.
وبينما ذهب روبرت في أحد الأيام لكي يجلب سمكاً من ميناء المدينة لتجهيز العشاء له ولرفقائه، استغل تشارلي غيابه لينهال بالضرب المبرح على كيتي دون معرفة السبب. وعندما عاد روبرت صدم بالمنظر المروع الذي كانت عليه حبيبته فحمل مسدساً وذهب بحثاً عن تشارلي وعندما وجده وصارحه بفعلته نشب نزاع بين الاثنين انتهى بسقوط تشارلي ميتاً أثر طلقة خرقت جسده من مسدس روبرت. بعدها قام روبرت بتسليم نفسه لشرطة العاصمة واعترف بجريمته, فزج في السجن في انتظار محاكمته. ولم يكن بحسبان رجال الشرطة بأنهم قبضوا على شاب سيصبح في يوم من الأيام أحد أشهر مجرمي أمريكا في التاريخ المعاصر حتى يومنا هذا.
معاناة منذ الصغر
ولكي نتفهم السبب وراء ارتكاب روبرت جريمة القتل لابد
أن نرجع إلى الوراء قليلاً لنلقي الضوء على نشأته.
ولد روبرت فرانكلين سترود بمدينة سياتل بواشنطن العاصمة في 28 يناير سنة 1890م لزوجين هما إليزابيث وبين سترود. وكان لأمه أبنتان من زواج سابق ولم يمض وقت طويل حتى أنجبت أمه أخاً له يدعى ماركوس.
وكانت إليزابيث أمه مكافحة غمرت أبناءها بالحب والعطف والحماية من أبيهم المدمن على شرب الكحول حيث كان غالباً ما ينهال عليها وعلى أبنائها بالضرب المبرح, وكان لهذه المعاملة الأثر الأكبر في نفس روبرت حتى بات أبوه عدوه الأول في طفولته.
وما أن بلغ روبرت سنه الثالثة عشرة حتى انطلق في رحلة استكشافية في أرجاء أمريكا أملاً في الحصول على عمل والعيش في سلام بعيداً عن طغيان والده المستبد. وظل يتنقل بين عدة وظائف حتى بلغ 17 عاماً حينها قرر العودة إلى المنزل ليجد أهله في حالة مادية أفضل من ذي قبل ولكن أباه كان ما زال يسرف في شرب الكحول. وأصبحت العلاقة بين والديه متباعدة فالأم تكره الأب وهو من جهته لا يمل من ضربها وضرب أبنائه الآخرين.
فقرر روبرت الهروب مع عشيقته كيتي ليواجه المصير المظلم والذي تسبب بدخوله السجن في جريمة قتل كان سببها الانتقام وعدد كبير من مشاعر الكره والغضب على معاملة النساء بالضرب تطورت لديه عبر السنين من مشاهدة أمه وهي تتعذب بين يدي والده.
وفي الأشهر الأولى لسنة 1909م هرعت والدة روبرت إلى العاصمة جونو لمساعدته فور سماعها بحادثة القتل التي ارتكبها وعينت له محامياً للدفاع آملاً في أن يبرئ ساحة ابنها من هذه الجريمة الشنعاء.
ولكن آمال الأم سرعان ما تبخرت, حيث أن القاضي المكلف بقضية روبرت قد عين حديثاً وأراد أن يضع بصمته في تاريخ القضاء بولاية ألاسكا ورأى في قضية روبرت المثال الأسمى لهدفه.
وحكم على روبرت بالسجن لمدة 12 سنة في إصلاحية جزيرة مكنيل لتبدأ من هناك رحلة الرجل الذي أذهل العالم بإنجازاته. وسرعان ما تعلم روبرت قوانين السجن والتي كانت مسألة مهمة في بقائه حياً بين أشخاص أسمى صفاتهم القتل والتعذيب.
وعلى الرغم من تحوله إلى شخص هادئ ومسالم مع مرور الوقت إلا أن الغضب والحقد على الحكم القضائي والأشخاص الذين زجوا به في السجن لا يزال يشتعل داخل صدره ويتأجج يوماً بعد يوم. وكان ما يلاقيه من ضرب الهراوات والتلفظ من قبل الحراس بمثابة الوقود الذي يزيد نيران الكره في قلبه.
وسيلة الاتصال الوحيدة له بالعالم الخارجي كانت الرسائل التي يتلقاها من أمه وعشيقته كيتي. وخلال السنتين الأوليين لم ير أمه سوى في مناسبة واحدة.
وعندما اعتقد الجميع بأن تصرف روبرت المسالم سيخرجه من السجن بعد مرور نصف المدة لحسن سلوكه تطورت الأمور إلى الأسوأ فقام روبرت بطعن أحد السجناء بسبب قيام هذا السجين بالإبلاغ عنه في سرقة طعام. فكانت لخيانة هذا السجين أن عزز خروج الوحش المسكون بجسد روبرت فلم يتوان في طعنه وضربه بسبب خيانته حتى أدخل المستشفى متأثراً بجراحه. وفي محاكمة سريعة حكم عليه بستة أشهر إضافية على حكمه السابق.
وبسبب الازدحام في الإصلاحية التي كان يقضي فيها روبرت بقية حكمه قررت الولاية نقله مع مجموعة أخرى إلى إصلاحية ليفنورث الفيدرالية بمدينة كنساس ذات التحصين الأمني العالي والمشدد. وهناك تمكن روبرت الذي لم يتجاوز في تعليمه المرحلة الابتدائية أن ينخرط في الدورات التعليمية وقد أنبهر المسئولون من العلامات المتفوقة التي كان يحرزها روبرت في اختباراته.
ملاذ الوحش في وحدته
ولم يكن روبرت مهتماً فقط بالعلوم الأكاديمية بل تجاوز ذلك وبدأ بدراسة بعض الحركات والمذاهب العقائدية وركز اهتمامه على الثيوصوفية وهي حركة دينية فلسفية بدأت بالظهور في الولايات المتحدة سنة 1875م وهي مبنية على التعاليم البوذية والبراهمية. وتعتمد هذه الحركة في الأساس على التأمل ويبدو أنها استطاعت أن تهدئ من روع روبرت وصرف نظره وتفكيره عن حالة العزلة التي يعيشها وذلك بانشغاله بها.
ولكن كالمعتاد لم تدم هذه الحالة من الهدوء والأمان, ففي العام 1915م أصيب روبرت بألم شديد متواصل أدخل على أثره إلى مستشفى الإصلاحية وشخصت حالته وأعلن عن أصابته بداء (برايت) وهو مرض يصيب الكلى بالتهاب شديد قد يتسبب في تعطيل وظائفها الحيوية.
وبينما كان روبرت قابعاً على سريره الأبيض يصارع المرض الذي كانت أهواله بادية على وجه وجسم روبرت فقد نصف وزنه وبدا وجهه شاحباً.
سمعت في هذه الأثناء إليزابيث ما كان يحدث لابنها في مستشفى الولاية فسافرت إلى مدينة كنساس لمتابعة حالته. ولصدمة الأم المسكينة لحالة ابنها قامت بإرسال طلب التماس للنائب العام للولايات المتحدة الأمريكية راجية وأمله في إطلاق سراح ابنها حتى تتمكن من رعايته. ولكن التماسها لم يرد عليه، وبينما الأم فاقدة الأمل في نجاة ابنها وتعد الساعات والدقائق التي تفصل بينها وبين سماع موت ابنها لتصطدم بمفاجأة جديدة فقد بدت آثار الشفاء على روبرت وبدأ يكسب وزنه السابق.
وبعد أيام أطلق سراح روبرت ليعود إلى زنزانته مجدداً ولكن هذه المرة الأمور أصبحت مختلفة عن السابق فهناك سجّان جديد اشتهر بين السجناء بقسوته وشدته في التعامل معهم والغريب أنه بدأ يتحرش بروبرت منذ قدومه، فتارة يضربه بالهراوة وتارة أخرى يسقطه من فوق الدرج الحديدي ولكن الوحش صبره محدود وسرعان ما سينطلق للقضاء على نظام الظلم كما كان يعتقد.
هذا السجّان يدعى اندرو أف تيرنر وقد عُين حديثاً بالإصلاحية في غياب روبرت وبدأ منذ اليوم الأول بتوضيح أسلوبه وفلسفته المتوحشة في التعامل حتى أصبح هاجساً مخيفاً لكل سجين وهو ما كان يسعى لتحقيقه من هذا التعامل، أن يكون هو الشخص الآمر والناهي في الإصلاحية.
وفي عام 1916م أتى ماركوس الأخ الشقيق لروبرت لزيارة أخيه ولكن رغبته قُبلت بالرفض من قبل المسئولين، الأمر الذي أشعل الكره والحقد والغضب ثلاث مشاعر قاتلة فتاكة اختلطت في صدر روبرت الذي كان يرغب بمشاهدة شقيقه الأصغر منذ سنوات وعندما تحقق الأمر لم يمكنه مسؤولو السجن من ذلك فأراد الانتقام وهو غالباً ما يكون انتقامه شديداً كما عرفنا من قضية القتل التي تسببت بدخوله السجن.
واستمع تيرنر لصرخات روبرت وهو يشتم ويمقت النظام وطريقة التعامل في الإصلاحية التي هو فيها وكيف للمسؤولين منعه من مشاهدة أخيه الأصغر. فرفع تقريراً لمدير الإصلاحية الذي أمره بمعاقبة روبرت, فقام تيرنر بتعذيبه حتى أغشي عليه ومن ثم أعاده لزنزانته ولم يستيقظ إلا في اليوم التالي.
ولكن الذي استيقظ لم يكن روبرت بل كان الوحش الذي يسكن بداخله فكانت حرقة آثار الضرب على ظهره تزيد من حقده وغله. وعندما أتى موعد الغداء دخل روبرت إلى صالة الطعام التي ازدحمت بقرابة الألف سجين.
وعندما جلس في مكانه رفع يده عالياً وعندما طلب منه الحراس بإنزال يده لم يستجب، وكان روبرت متأكداً بأن الحارس الوحيد الذي سيقترب منه لن يكون سوى تيرنر لحبه في تعذيب وضرب السجناء بالهراوات.
وكان لروبرت ما أراد فاقرب منه تيرنر وهو يصرخ عليه بأن ينزل يده وعندما وصل يده بدا الطرفان يتبادلان الحديث ولكن أحدا لم يعلم بما جرى بينهما وعندما مد تيرنر يده لهراوته الجانبية التي أراد أن يستخدمها في ضرب روبرت أنقض عليه روبرت كالصاروخ وطرحه أرضاً وطعنه في صدره بسكين كان يخفيها في قميصه ليسقط تيرنر ميتاً وغارقاً في دمائه.
قوة الأم وقوة القانون
قام مسئولو الولاية بالتحرك سريعاً عقب جريمة القتل التي حدثت، وبما أنها الأولى من نوعها في الولاية فقد قام المدعي العام فريد روبرتسون بالتعاون مع عدد من المحققين ببناء قضيتهم لرفعها في المحكمة وإنزال أقسى العقوبات على روبرت.
ومرة أخرى تعود أم روبرت سترود للدفاع عن أبنها فبعد سماعها للحادثة ذهبت الأم إلى كنساس قادمة من جونو وعينت أفضل المحامين في ذلك الوقت للدفاع عن أبنها ولكن حتى أفضل المحامين لم يكن ليستطيع أن ينجي روبرت من العقوبة في ظل وجود حراس السجن كشهود عيان بالإضافة إلى أكثر من ألف سجين شاهدوا ما حدث.